2025-05-19
كشفت دراسةٌ جديدة أن حضارةً شرق أوسطيةً قديمةً طورت أبجديةً مبكرةً نشرت ثقافتها على نطاقٍ متوسطي واسع، لكنها لم تنشر حمضها النووي.
وظهرت الحضارة الفينيقية قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، وتمركزت حول ما يُعرف الآن بلبنان وأجزاء من سوريا وفلسطين، حيث تميز الفينيقيون بقدراتهم البحرية والتجارية الفائقة، وأنشأوا شبكة واسعة من المدن والمرافئ والمراكز التجارية المنتشرة على طول الساحل المتوسطي.
ومع مرور الوقت، توسعت هذه الحضارة نحو الغرب، وكان من أبرز محطاتها مدينة قرطاج في تونس الحالية، التي أصبحت لاحقًا واحدة من أقوى وأهم المراكز الفينيقية في غرب المتوسط.
وتقول الأسطورة إن عليسة، المعروفة باليسار محليًا، هي أميرة من مدينة صور الفينيقية، هربت من بلادها بعد صراع دموي على العرش، وأبحرت مع حاشيتها إلى الساحل الشمالي لإفريقيا. هناك أسست مدينة جديدة بحيلة جلد ثور، لتولد قرطاج التونسية.
والمتأمل في هذا التاريخ يجد أن دول المدن الفينيقية تشاركت لغاتٍ - مسجلةً بأبجديةٍ سبقت الحروف اليونانية واللاتينية - وممارساتٍ دينيةً واقتصاداتٍ تجاريةً بحرية.
وقد افترض العديد من الباحثين أن سكانها كانوا يتشاركون أيضًا أصولًا مرتبطةً بأصول فينيقية من الشرق، ورغبةً منهم في فك لغز الأنساب، وكما جاء في مجلة نيتشر وعلوم أمريكن، قام فريق دولي على رأسهم عالم الوراثة السكانية هارالد رينغباور في معهد ماكس بلانك لعلم الإنسان التطوري في لايبزيغ الألمانية وزملاؤه من جامعة هارفرد الأميركية، بتحليل الحمض النووي لعينات جينية من مئة جينوم تعود إلى مئتين وعشرة أشخاص، تم دفنهم في قبور على الطراز الفينيقي في أربعة عشر موقعًا مختلفًا كانت تنتمي إلى الحضارة الفينيقية من بلاد الشام، إيبيريا، صقلية، سردينيا، إيبيزا، وتونس.
وفيها استخدم الباحثون تقنيات تسلسل الحمض النووي المتقدم لتحليل البيانات الجينية، مما سمح لهم بتحديد أصول هؤلاء الأفراد وتوزيعهم الجغرافي.
ولدهشة رينغباور، لم يشترك سكان البؤر الاستيطانية للثقافة الفينيقية على ساحل البحر الأبيض المتوسط - والمعروفون أيضًا باسم الشعب البونيقي - في أي أصل مع سكان الشرق الأوسط القدماء، حتى أولئك القادمين من مواقع مرتبطة بالفينيقيين وأسلافهم الكنعانيين.
ولكن لم تتشابه جينومات البونيقيين دائمًا مع جينومات سكان المناطق المحلية الأخرى، مثل سكان سردينيا وإيبيزا. بل تشابهت جينومات البونيقيين مع جينومات سكان اليونان وصقلية القدماء، ومع مرور الوقت، انضمت أصول شمال إفريقيا، تحديدًا من تونس، إلى هذا المزيج، مما يعكس صعود قرطاج بعد عام خمسمئة قبل الميلاد.
ويقول رينغباور إن هذا المزيج الفريد من الأصول هو على الأرجح نتيجة تدفق منتظم لشعوب متنوعة تربطها "طريق سريع متوسطي" تجاري. ولا يُفاجئ غياب الأصول الشرق أوسطية لدى البونيقيين، فيبدو أن الفينيقيين ثقافة تكامل واستيعاب، لقد استقروا حيث أبحروا، وهو من شأنه أن يقلل من فكرة "الاستيطان الفينيقي النقي"، ويعزز الرؤية القائلة بأن قرطاج تطورت نتيجة تفاعل حضاري بين الفينيقيين وسكان شمال إفريقيا.
وفيما كانت أسطورة ديدو أو أليشار أو عليسة تُجسد بدايات واحدة من أعظم حضارات العصور القديمة، وتُظهر كيف تندمج الأسطورة بالتاريخ، إلا أن العلم الحديث يساعدنا على إعادة فهم هذه الروايات في ضوء الأدلة المادية والجينية، ويُذكرنا بأن الحضارات، في نهاية المطاف، تُبنى على التنوع والتفاعل بين الشعوب.
ويرغب رينغباور في معرفة سبب تبني شعوب البحر الأبيض المتوسط المتنوعة للثقافة الفينيقية، بدلًا من التمسك بممارساتها القائمة، ويتساءل: "كيف يُمكن أن يكون هناك مثل هذا الانفصال؟" هل يعني هذا أن الثقافة الفينيقية كانت بمثابة امتيازٍ يمكن للآخرين تبنيه؟ هذا سؤالٌ لعلماء الآثار.
تقرير: حذام عجيمي