من قلب بيروت، حيث تتداخل حكايات المهاجرين وتتشابك خيوط الذكريات مع الواقع، تنطلق قصة فنان حمل في ريشته وألوانه رسالة إنسانية سامية، ليحول من خلال فنه الألم إلى أمل واللوحة إلى نافذة على الروح الإنسانية المعذبة.

ضيف فانيسا مرعي في "غربة" هو الفنان التشكيلي رياض نعمة، الذي غادر بغداد عام 1997 بعد معاناة طويلة مع السجون والقمع، لكنه لم يفارقها روحيا قط، بل دخل في رحلة شوق مستمرة جعلته يعيش في حالة "الذهاب المستمر إلى البلاد"، كما يسميها مستوحيا من شعر محمود درويش.

بدأ رياض رحلته مع الفن في سن الخامسة عشرة، في بيت عراقي تنفس الفن من جدرانه، حيث كان له إخوة يشتغلون في هذا المجال، لكن طريقه لم يكن مفروشا بالورود، فقد واجه قسوة النظام العراقي السابق الذي منع مواطنيه من السفر، ما دفعه لمحاولة تزوير الأوراق مرتين، الأولى انتهت بسجنه أحد عشر شهرا في ستة عشر سجنا مختلفا، والثانية نجح فيها بفضل تعاطف وكيل وزير الثقافة الشاعر الذي قال له: "أعرف أن كل أوراقك مزورة، لكنني سأوقع لك الكتاب، امش واهرب".

ما يميز تجربة رياض نعمة الفنية أنه لم يكتف بنقل الواقع، بل طور أسلوبا خاصا يسميه "الواقعية التعبيرية"، حيث يمزج بين الشكل الواقعي والتعبيري ليجمع كل التناقضات الموجودة في الحياة، ويستخدم اللون الأحمر بحكمة بالغة، فهو "السيد الذي يأتي آخر واحد"، مؤمنا بأن الفن مثل البلاغة، يمكن إيصال الفكرة العميقة بأقل الألوان وأبسط المفردات.

وبرغم استقراره في بيروت منذ أكثر من ربع قرن، وحبه العميق لهذه المدينة التي أعطته الكثير حتى صار جزءا منها، إلا أن رياض يؤكد أن روحه ما زالت معلقة ببغداد، وهذا التجذر الروحي انعكس على إبداعه، حيث يرسم الأطفال العراقيين الذين يذهبون إلى المدرسة وسط القصف، والوجوه التي تحمل تشوهات الحرب والصمت، محاولا أن يقول للعالم: "انظروا إلى هؤلاء".

الفنان رياض نعمة لا يرسم فقط، بل يحارب بريشته من أجل الفقراء والأطفال والفئات المجتمعية التي ظُلمت وحُرمت، مؤمنا بأن "الفن الذي لا يستوقف الآخر لا يوصل رسالة"، فهو يحول النص الشعري إلى نص بصري، مستوحيا من شعر محمود درويش عناوين معارضه مثل "الذهاب المستمر إلى البلاد" و"اللاشيء الممتلئ"، ليؤكد أن الغربة عشعشت وتجذرت في ذاكرته وكيانه، وأن البحث عن الوطن يستمر في عالم تبدو فيه كل الأوطان غريبة.